قبة الصخرة: تاريخ وبناء

من الذي بنى قبة الصخرة: تاريخ البناء والعمارة والإرث الحضاري لقبة الصخرة

قبة الصخرة، واحدة من أبرز المعالم الإسلامية والتاريخية في العالم، تقع في مدينة القدس الشريف، وتُعتبر رمزاً معمارياً ذا قيمة روحية وثقافية عظيمة. تشتهر القبة بشكلها الفريد الذي يعلو الصخرة المقدسة في قلب الحرم القدسي الشريف، حيث يُعتقد أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم عُرج من هذه الصخرة إلى السماء في رحلة الإسراء والمعراج. إن تاريخ بناء قبة الصخرة يعود إلى القرن السابع الميلادي، ويعكس هذا البناء العميق تأثرات فنية وثقافية وإيديولوجية تشكلت خلال فترة الدولة الأموية.

السياق التاريخي لبناء قبة الصخرة

في فترة ما بعد الفتح الإسلامي للقدس عام 638م، برزت الحاجة إلى إقامة معالم دينية تعبر عن هوية المسلمين الجديدة في المدينة المقدسة. في ظل حكم الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، الذي حكم بين 685-705م، بدأ التخطيط لبناء قبة الصخرة في موقع يُعتبر مقدساً جداً لدى المسلمين، والذي يحمل أهمية كبيرة عند اليهود والمسيحيين أيضاً. كان الهدف من هذا البناء أن يعزز من المكانة الروحية والدينية للقدس في العالم الإسلامي، ويؤكد تفردها كمدينة مقدسة تلي مكة والمدينة.

كان عبد الملك بن مروان يسعى أيضاً إلى إظهار قوة الدولة الأموية وتماسكها من خلال مشاريع معمارية ضخمة، إذ جاءت قبة الصخرة في سياق مماثل لبناء المسجد الأموي الكبير في دمشق، وهو من أعظم إنجازات العهد الأموي.

من بنى قبة الصخرة؟ الدور الأموي والمهندسون

تعود عملية بناء قبة الصخرة إلى عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، الذي أشرف على إنشائها بين عامي 688 و691م. قاد المشروع المهندس المعماري ذو الأصول البيزنطية والمعروفة خلفيته الفنية، حيث استفاد من الحرفيين والفنانين من مختلف المناطق التي كانت تحت حكم الدولة الأموية، لا سيما من المناطق التي كانت تابعة للإمبراطورية البيزنطية سابقاً.

أسندت مهمة تنفيذ الأعمال إلى مجموعة من الحرفيين الذين كانوا متمرسين في فنون العمارة والفنون الزخرفية، وكان من بينهم مهندسون ونقاشون من العرب والبيزنطيين واليهود، الأمر الذي أدى إلى مزيج فني فريد جمع بين الطراز الإسلامي المبكر والتقاليد المعمارية البيزنطية والفارسية.

تميز بناء قبة الصخرة باستخدام مواد بناء عالية الجودة وأسلوب زخرفة دقيق. جدرانها مغطاة بالفسيفساء المزخرفة، والتي تضمنت نقوشاً هندسية ونباتية مع عدم تضمين صور بشرية أو حيوانية، مما كان يتوافق مع القواعد الإسلامية التي تحظر تصوير الكائنات الحية في الأماكن الدينية.

العمارة والتصميم الفني لقبة الصخرة

تتألف قبة الصخرة من بناء مركزي تحيط به أروقة وممرات، ويتميز الهيكل بكثرة الرموز الإسلامية والعناصر الفنية التي تتكامل لتعطي البناء رونقاً روحياً وجمالياً فريداً. يبلغ ارتفاع القبة الذهبية نحو 20 متراً، وتعد من أقدم القباب التي بُنيت في التاريخ الإسلامي.

القاعدة التي تقوم عليها القبة هي منصة مثمنة الشكل تحيط بها أروقة من الأعمدة التي تدعم القبة نفسها. تم استخدام الحجر الجيري المحلي في البناء، بينما غطيت القبة نفسها في الأصل بالرخام والذهب، وتم تجديدها وتغطيتها بالذهب في مراحل لاحقة من التاريخ.

أبرز ما يميز قبة الصخرة هو الصخرة المقدسة في مركز البناء والتي يُعتقد أنها نقطة انطلاق رحلة الإسراء والمعراج للنبي محمد، ولهذا فإن هذا البناء لم يكن مجرد تحفة معمارية بل موقعًا ذا بعد روحي مقدس.

الأهمية الدينية والسياسية لقبة الصخرة

لم تكن قبة الصخرة مجرد مشروع معماري عادي، بل كان لها أبعاد سياسية ودينية بالغة الأهمية. فقد جاءت في زمن كان فيه الصراع بين الدولة الأموية والدولة العباسية على أشده، وكان لا بد من ترسيخ الهيمنة الأموية على القدس، التي تعد مركزاً دينياً هاماً، ليس فقط للمسلمين، وإنما لليهود والمسيحيين أيضاً.

اختيار موقع بناء قبة الصخرة فوق الهيكل اليهودي القديم في القدس، هو رسالة واضحة من الدولة الأموية، مفادها أن الإسلام هو الدين الخاتم، وأن القدس في عهدهم ستصبح مركزاً دينياً إسلامياً متكاملاً.

بالإضافة إلى ذلك، شكل بناء قبة الصخرة تحولا فنياً في العمارة الإسلامية، إذ أرسى مفاهيم جديدة في التصميم المعماري للمساجد والمباني الدينية، وهذا ما انعكس لاحقاً في العديد من المنشآت الإسلامية عبر العصور.

مراحل ترميم قبة الصخرة عبر التاريخ

خلال أكثر من ألف عام، مرت قبة الصخرة بعدة مراحل ترميم وتجديد بسبب عوامل الزمن والزلازل والحروب. في العهد العباسي، ثم الفاطمي، والمملوكي، والعثماني، تمت عمليات ترميم مختلفة أدت إلى المحافظة على هيكل البناء وزخرفته.

خلال العصر العثماني، على سبيل المثال، تم تعزيز الهيكل بأعمال معمارية إضافية وإصلاحات كبيرة، كما جُدد غطاء القبة الذهبية بعد أن تضرر مع مرور الزمن. في القرن العشرين والواحد والعشرين، شهدت قبة الصخرة عمليات ترميم وصيانة دقيقة بمساعدة جهات دولية للحفاظ على هذا التراث الذي يمثل قيمة حضارية وروحية لا تقدر بثمن.

الأبعاد الثقافية والحضارية لقبة الصخرة

تتجاوز أهمية قبة الصخرة كونها مجرد بناء ديني، فهي تحفة معمارية تجمع بين التراث الإسلامي والبيزنطي والفارسي، وتعبر عن تلاقح حضارات متعددة. كما أنها تمثل نموذجاً للتقنية المعمارية التي وصلت إليها الحضارة الإسلامية في بداياتها.

تلعب قبة الصخرة دوراً مركزياً في الهوية الإسلامية والقدسية، وتظل رمزاً واضحاً للصراع على الأرض والهوية في القدس. وعلى الرغم من مرور قرون طويلة، ما زالت القبة تلهم الفنانين والمعماريين والباحثين الذين يرون فيها نموذجاً فريداً للتناغم بين الفن والدين والسياسة.

جدول يوضح أبرز الأحداث المتعلقة ببناء وترميم قبة الصخرة

المصادر والمراجع

• ابن عساكر، تاريخه للقدس، تحقيق وتحليل، دار الفكر المعاصر، 1995.

• نور الدين طه، “العمارة الإسلامية في القدس: قبة الصخرة نموذجاً”، مجلة الدراسات الإسلامية، 2018.

يمثل بناء قبة الصخرة علامة بارزة في التاريخ الإسلامي، إذ جمع بين الطابع الديني والرمزية السياسية والفنية، وقد تمكنت عبر القرون من الحفاظ على مكانتها كرمز مقدس وعريق في قلب القدس. هذا البناء الذي بدأه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بأيدٍ متخصصة من مختلف الثقافات يمثل إرثاً لا غنى عنه في فهم تاريخ المدينة الإسلامية وهويتها.